ليست هناك مسألة أكثر التصاقا بقضايا الحرية الفردية من الحق في تغيير المعتقد، الذي يسمى في صيغته التراثية بـ “الردة”. انطلق النقاش حول الموضوع بداية القرن المنصرم، ما بين مؤيد للإبقاء على الاجتهاد التراثي بخصوص الردة -وأغلبهم من التيار السلفي-، ومناصر لإعادة الاجتهاد بخصوص هذا الحكم.
إذا كانت المشاريع النهضوية في عالمنا الإسلامي قد جعلت من أبرز همومها ترقية هذه المجتمعات، ورفع منسوب الوعي بين أبنائها، فإن حدة الانقسام الذي قد يورثه اختلاف العقائد أو المذاهب، مما يعطل هذا الانبعاث المأمول، ومما يشكل عائقا دون الرقي والانعتاق من حالة التخلف والانحدار.
لتحديد الموقف من هذه القضية، لا بد من تحديد المرجعيات المؤطرة لها. الحديث هنا عن حق الحياة، فلا يمكن إلا أن تكون المرجعية الإنسانية أحد العوامل المحددة للموقف.
أقصد بالمرجعية الإنسانية تلك الفطرة السليمة والتفاعلات النفسية الخفية التي لا يمكن تجاهلها في بناء المواقف وتحديد الاختيارات، وهي التعبير عن التوق الطبيعي والتطلع المشروع للإحساس بالنفس وقيمتها في الحياة، وكل المرجعيات الموازية ملزمة بالاستجابة والتفاعل مع هذه الفطرة التكوينية.
أقول هذا لأنني، حتى يوم كنت أسيرا للإسلام الفقهي والتاريخي، لم أستسغ نفسيا مثل هذا الحكم. لم أتقبل أبدا أن يفرض الإسلام على الناس ممارسة النفاق الاجتماعي والتمظهر بما لا يقتنعون به، وعشت صراعا نفسيا رهيبا بين ما أحسه وأعقله، وبين ما قيل لي أنه من المسلمات التي لا تقبل الجدال ولا النظر.
لكن التعامل مع قيمة أساسية مؤطرة للحياة الإنسانية، ومنظمة للعلاقات البشرية، يقتضي حين التعامل مع النصوص الدينية العودة للنصوص المؤسسة الواضحة الصريحة، من المصدر والمرجع الأول للأمة، وهو القرآن الكريم، بل وإعطاء الأولوية للنصوص التي تدل صيغها التركيبية وسياقاتها البلاغية، على التأسيس والتنظير والعموم والإطلاق، وربط النصوص الأخرى بسياقات أسباب النزول والتاريخ والزمان والمكان.
ويقتضي، حين التعامل مع السنة النبوية، انتقاء ما يتوافق والنصوص المؤسسة، ويحال غير ذلك على السياقات التاريخية والإكراهات الزمكانية التي احتكت بها، وكانت فاعلا مؤثرا في كثير من التصرفات النبوية، والأخبار المنقولة، والتفريق بين التصرفات النبوية الصادرة باسم النبوة والرسالة، وبين ما كان منها على سبيل الإمامة والسياسة والإدارة والقضاء والتدبير، وهو تفريق قديم ذكره كثير من فقهاء المسلمين.
لا يظنن أي مدافع عن حرية المعتقد أنه يحتاج لمنهجية معاصرة للتعامل مع النصوص الدينية المتعلقة بهذا الموضوع، لا يختلف التعامل معها عن غيرها من المواضيع؛ فإنه، وإن كانت النتيجة مختلفة عما قرره جمهور الفقهاء، فإن المنهجية المعتمدة لا تختلف عن مناهجهم، ولا تستعمل أدوات أصولية خارجة عن مجمل ما هو مقرر في كتب الأصول والتقعيد والتخريج الفقهي، رغم كل ما عليها من ملاحظات، لكن القصد أن النتيجة المرجوة واحدة حتى باتباع المناهج التقليدية في استخراج الأحكام.
ليس هناك أصرح ولا أوضح من قول الله تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم).
الصيغة التي ورد بها النص لا تدع أي مجال لادعاء النسخ أو التخصيص؛ فهي، وإن كانت بصيغة الإنشاء، إلا أنها خبر عن طبيعة الإنسان وتكوينه الذي لا يقبل الإكراه والإجبار، وهو أمر لا يقبل النسخ، كما أنها وردت بأعلى صيغ العموم، فكلمة (إكراه) نكرة في سياق النفي وفي سياق النهي، فالإكراه منفي وممنوع ابتداءً واستمرارا وانتهاءً.
صحيح أنه قد وردت عدة نصوص نبوية في قتل المرتد، كقوله “من بدل دينه فاقتلوه” وغيرها من الأحاديث الدالة على نفس المعنى؛ لكنها جميعا مخالفة لقاعدة القرآن القاطعة في عدم الإكراه، فكيف يمكن ترتيب الأحكام الكبرى على أحاديث آحاد ظنية الثبوت، لا تفيد القطع إطلاقا، بل ومعارضة القرآن بها؟
ثم إن الردة وأحكامها كانت مرتبطة في الماضي بالواقع السياسي آنذاك. لقد كان الدين مرادفا لمعنى الوطنية. كانت الدولة ذات هوية دينية، وكان الولاء للدين قويا للغاية، فكل من اختار دينا ما يلتحق بالدولة التي يدين أهلها بذلك الدين، ويواليهم سياسيا وعسكريا، فكان الارتداد يشكل خطرا سياسيا على كيان الدولة، ولم يكن متصورا التحول من سيادة إلى أخرى دون تغيير الاعتقاد، وهي صورة مخالفة لما عليه الناس اليوم، من إمكانية تغييرهم لأديانهم مع احتفاظهم بهويتهم الوطنية وولائهم لبلدانهم.
إن قانونا كقانون الردة مفتاح لبذرة النفاق، وقاعدة رئيسية لمفهوم الإكراه والجبر، ومستودع لدولة الخوف. الدولة التي تكره مواطنيها على اعتقاد فكرة ما، وتنذرهم بأشد العواقب سوءا إن خرجوا عليها وإن حافظوا على ولائهم السياسي. لا يوجد أي عقل سليم يقبل هذا الوضع وينسبه للإسلام الذي طالما أكد على حرية الاختيار: “إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا”.
ينبغي أن يضطلع العلماء والمؤسسات الرسمية بدور بالغ في ترسيخ نمط اجتهادي معاصر، وتطوير العدة التأويلية، عوض الانحباس غير المبرر في التراث قلبا وقالبا. أرى عشرات الكتب التي تطبع كل سنة لا تخرج عن تحقيق نصوص تراثية، أو تبسيط للمضامين التراثية، لكنه من النادر أن تجد كتابا فقهيا يعيد النظر في تلك الاجتهادات، ويشرح العوامل التي دفعت الفقهاء إلى الأخذ بذلك القول، ثم بناء محتوى اجتهادي يناسب الواقع المعاصر.
لكن هذا الأمر لا يمكن إلا عبر ترسيخ آخر لمفهوم الدولة الحديثة في وجدان الشعب، وتوضيح أسسها ومبانيها، وبيان أنها مغايرة تماما لبنية الدولة التراثية؛ وعليه، فأحكامها أيضا مغايرة لأحكام الدولة التراثية. حينها، يمكن أن يفهم الناس دون أدنى تشنج أن الإسلام قد حمى حق المسلم في الردة.
محمد عبد الوهاب رفيقي
مفكر وباحث في الدراسات الإسلامية متخصص في قضايا التطرف والإرهاب والإصلاح الديني، ناشط حقوقي وفاعل جمعوي وكاتب ومقدم برامج تلفزية وإذاعية، ويشغل حاليا منصب مستشار لدى وزير العدل المغربي
لا تعليق